السبت، 25 أغسطس 2012

الجينوم البشرى

الطبيب والمفكر الإسلامي د·حسان حتحوت الذي يشرف على أحد المراكز الإسلامية بالولايات المتحدة الأميركية يقدَّم لنا عبر هذا اللقاء قراءة مختلفة لـ<الجينوم البشري>··· فهو باحث في سياق الحوار بعيداً عن المصطلحات والتعقيدات بأسلوبه الإيماني المبسط والعميق·
< بداية··· أسأله كيف نفهم قضية الجينوم بصورة إيمانية مبسطة يفهمها القارئ البسيط قبل العالم الجليل؟
ـ نهجنا في تعلم اللغة على البدء بتعلم الحروف، ثم من هذه الحروف نصوغ الكلمات، ومن الكلمات نشكل الجمل، وهذه تتوالى لتكون سطوراً تملأ الصفحات لتفضي الى الفصول التي تجمع فتكون كتاباً كاملاً· والكتاب لا يعني شيئا في يد من لا يقرأ· فإذا تناوله القارئ فلابد أن يجتاز هذه الأدوار جميعها بدءاً بالحروف وانتهاء باستيعاب الكتاب جميعه والإحاطة بكل ما فيه من مبنى ومعنى·
لكن الكتاب قد يشتمل ـ فيما يشتمل ـ على أخطاء مطبعية ليست من أصله، لكنها تتسرب إليه في أثناء الطباعة على الماكينة أو عملية رص الحروف ومن هذه الأخطاء ما يقلب معنى الكلمة ويصرفها إلى معنى مغاير تماماً، فالأمل والهمل والعمل والجمل والأجل كلمات لم تختلف إلا في حرف واحد على تفاوت معانيها جميعها، بل قد يكون الاختلاف في حركة الحرف نفسه كهذا الذي أراد أن يقرأ قوله تعالى في سورة التوبة الآية 3: (أن الله بريءٌ من المشركين ورسوله) (بضم اللام) فجعلها <بريء من المشركين ورسوله> بكسر اللام، فما أفظع الفارق بين المعنيين·
والأبجدية التي نستعملها في كتابتنا العادية مكَّونة من بضعة وعشرين حرفا، لكننا نعلم أنه من الممكن اختزالها دون قصور عن أداء المعنى، فنحن نعلم أن أبجدية إرسال البرقيات مكونة من الشرطة والنقطة فقط، لكن على ترتيب يمكننا من أن نكتب بهما الحروف الأبجدية العادية، وكذلك لغة الكمبيوتر قوامها الواحد والصفر لكن بتواليات وترتيب يحيلها إلى حروف عادية فكتابة مقروءة·
بهذه المقدمة نرجو أن نكون قد ضربنا مثلا يعيننا على الموضوع الذي نتصدى لبيانه فيجعله أيسر فهما وأقرب منالاً·
يستطرد قائلاً:
ـ قضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يميز الإنسان على سائر الخلق بالعقل الذي هو مفتاح المعرفة، وأن يحفِّز هذا العقل إلى قراءة الكون المخلوق فيزداد تعظيما للخالق· وراح عقل الإنسان على مدى التاريخ يدرس ويبحث، ويميط كل يوم لثاماً ويكشف كل يوم سراً، حتى تحصل للإنسانية بمرور الدهور تراث ضخم من المعرفة، امتاز في العقود الاخيرة بالتسارع لدرجة مذهلة،فقد حصلت الإنسانية في القرن الاخير قدر ما حصلته في تاريخها الطويل، واليوم يقدرون أن المعرفة الإنسانية تتضاعف كل خمس سنوات، ويتراخى عصر الثورة الصناعية ليفضي إلى عصر الثورة المعلوماتية الذي دخله العالم منذ عقود وإن ظلت بعد شعوب لم تستيقظ من رقدة العدم فمآلهم في زريبة المستقبل، تحتلب ألبانهم وتمتص دماءهم وتنتهب خيراتهم ويقتصر دورهم على تحقيق مطامع السادة أصحاب السيادة·
لكن العجيب أن استقراء الإنسان للكون لم يبدأ بالحروف فالكلمات فالجمل كما ذكرنا في تمثيلنا بتعلم اللغة· لكن العملية سارت في الاتجاه المضاد· فقد فتح الإنسان عينيه على الكون فوجده كتاباً كاملاً وإنجازاً جاهزاً لا يعرف أصله ولا يدري فصله، على المعنى الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم) الكهف: 51·· وعلى مدى تاريخ العلم كان التقدم يقاس بمدى قدرة العقل على أن يعود القهقري في تفحص الأشياء والتسلسل إلى أصولها، والأمثلة على ذلك كثيرة، مثلما فكك علم الكيمياء الأجسام إلى الجزئيات فالذرات، ورد علم الطبيعة المادة الى الطاقة، ورد علم الكون إلى نظرية الانفجار الأولى العظيم (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الانبياء: 30، واصل كل شيء حي إلى الماء، فهو يسير من الكل إلى أجزائه ومن المجمل إلى تفصيلاته ومن المركب إلى مكوناته، ولم تشذ عن ذلك دراسة الإنسان للإنسان، فهو يعود بالإنسان كتاباً إلى الإنسان حروفاً إن اهتدى إليها فقد استطاع أن يقرأ الإنسان قراءة جديدة وستكون قراءة فريدة·

تعرف الإنسان إلى الإنسان
< كيف يتعرف الإنسان إلى الإنسان؟
ـ أول ما عرف الإنسان عن نفسه صورة ظاهرة وبدنا ذكرا؟ أو أنثى وملامح تميزه على الاخرين· ثم كانت الإصابات في السلم او الحرب نافذة له على الأعضاء الداخلية وخصوصاً عندما نشأت فكرة التحنيط بعد الموت· وزادت الدراسة تفصيلا عندما قام علم التشريح والتشريح المقارن· واخترع المجهر فبين أن أنسجة الجسم جميعها تتكون من خلايا، وفي كل خلية نواة هي المسؤولة عن حياة الخلية ووظيفتها·
وتقدمت الدراسات فأبانت أن نواة كل خلية تشتمل على الحصيلة الإرثية، بدءاً بما كان منها منوطاً بالخواص المشتركة بين البشر جميعهم أو بين السلالات المتقاربة، وانتهاء بالتفصيلات التي تميز كل شخص فتدل عليه فرداً بذاته لا يطابقه فرد آخر من الناس منذ بداية الإنسانية وحتى نهايتها·
وهذه المادة الإرثية معبأة في نواة الخلية في صورة ثلاثة وعشرين زوجا (فرد من الأب وفرد من الأم) من أجسام صغيرة اسمها <الكروموزومات>· وأمكن التعرف إليها حسب تسلسلها من الزوج الأول حتى الزوج الثالث والعشرين· ثم اكتشفت العلاقة بين طائفة من الأمراض (الوراثية) وبين اختلالات تصيب الكروموزوم· وكان أول ما اكتشف بطبيعة الحال الاختلافات في العدد، فإذا زاد <كروموزوم> واحد على <الكروموزومين> اللذين يحملان رقماً معيناً في سلم الترتيب نتج من ذلك مرض كذا من الأمراض الوراثية· وإذا نقص <كروموزوم> فبقي من الزوج فرد واحد فهي إمارة مرض كذا، مثال ذلك مرض الطفل المنغولي سببه أن هناك <كروموزوما> إضافياً رقمه 22 (أي ثلاثة لا إثنان) ومثل مرض تيرنر حيث يختفي أحد <الكروموزومين المؤنثين>· لكن الخلل قد يكون غير نقصان العدد أو زيادته، فإن غياب قطعة من <كروموزوم> أو حتى انقلاب عاليها سافلها يسبب امراضا، فلما امكن تقسيم <الكروموزوم> إلى مناطق كما ترسم خطوط التدرج على المسطرة (وأن تكون على الكروموزوم غير متساوية) أمكن رد كثير من الامراض ليس فقط إلى<الكروموزوم> عموماً بل إلى منطقة صغيرة منه·
ومعلوم أن <الكروموزوم> تقبع في النواة وقد اختصرت طولها بأخذ شكل لولبي محكم، إذا فردناه وجدناه سلسلة من مركبات أدق تعرف بالجينات وهي وحدات الوراثة كما أن تقرر أداء الخلية لوظائفها الحيوية، فإذا استطعنا ربط مرض بعينه بمنطقة من <كروموزوم>، فإن هذه المنطقة على قصرها تشتمل على ألوف من الجينات ولا يزال علينا أن نعرف أي واحد منها هو المسؤول أي هو المعيب، وذلك إذا أردنا أن نحدد التشخيص الدقيق الذي هو أساس العلاج المجدي·
ويتكون <الجين> بدوره من حمض <النوويك>، وهو بدوره يتركب من زوجين من القواعد لكل منهما حمضان أمينيان متعاشقان، لا يتعاشق كل إلا مع وصيفه، وهذه الاربعة هي في الواقع حروف لغة الحياة وبطريقة تكرار القواعد تكون الرسالة· هذه الاحماض الأمينية الأربعة (أدنين، ثايمين، سيتوزين، وجوانين) هي النقطة والشرطة للتلغراف، وهي الواحد والصفر للكمبيوتر، وكل زوج منهما يشبه درجة على سلم حلزوني طويل أو زنبرك مزدوج، فهذا هو الشكل الفراغي لجزيء حمض <النوويك> الذي اكتشفه العالمان <واسطن، وكريك> العام 1953م وحصلا بذلك على جائزة نوبل·
وتحدث الغلطة المطبعية، إن اختلف التركيب فحل محل أحد الأحماض الأمينية حمض أميني آخر من بين المئة الف حمض التي يتركب منها جسم الإنسان· ويترجم هذا الخطأ بحدوث مرض، أو بوجود الاستعداد لمرض معين، إما في الحال أو في الاستقبال·· وينتج هذا الخطأ إما موروثا من جيل سابق وإما طفرة في أحد الجينات خلال التكوين·
إن في جسم الإنسان تريليونات كثيرة من الخلايا في نواة كل منها ستة وأربعون <كروموزوما>، تنتظم نحو مئة الف جين، مؤلفة من نحو ثلاثة بلايين زوج من القواعد التي أسلفنا ذكرها فهذه هي التي يقصد العلماء قراءتها وترتيبها كما هي (واكتشاف المعيب منها) واستيفاء المعلومات الجينية التي لو كتبت لملأت عشرة مجلدات، لكن في التسجيل على الكمبيوتر تيسيرا· يريد العلم إذن أن يقرأ الإنسان على المستوى الجزيئي، فيما يسمى بمشروع قراءة الجينوم البشري·

الجينوم البشري
< ماذا تعني كلمة الجينوم البشري؟
ـ كلمة <جينوم> مركب مزجي من كلمتي <جين> و<كروموزوم>، ويعبر بها عن كتلة المادة الوراثية جميعها لكنها مسجلة تفصيليا بحروف هجائها الأساسية التي ذكرناها· والمشروع طموح وضخم، رصدت له اميركا خمسة بلايين من الدولارات وقدرت إنه يستمر السنوات الخمس عشرة المقبلة، لكنا مقدرون للمشروع أن يتم قبل ذلك، أولاً لأن الدول التي لديها الإمكانات قد تقاسمته فكل دولة تقرأ الجينوم البشري أقل أو أكثر، وثانيا لأن تقنيات جديدة تخدم المشروع تبتكر كل يوم، وجزء من الميزانية مرصود لابتكار هذه التقنيات الجديدة·
وقد بدأ الامر باكتشاف خمائر تستطيع أن تقطع شريط حامض <النوويك> في مناطق معينة وخمائر تستطيع أن تلحم في الشريط قطعة أخرى (القطع والوصل)··· ثم صار بالإمكان الفصل جين بعينه واستزراعه للحصول على المركبات التي يفرزها او حتى زرعه في مكان جين مثله معطوب·· والتقدم العلمي في هذا الباب يسير بسرعة مذهلة· وقد تكون له آثار مهمة على حياتنا كما ألفناها، ولذلك خصصت ثلاثة في المئة من الميزانية لدراسة النواحي الأخلاقية والآثار الاجتماعية والمحاذير المرتقبة عندما يتم هذا الإنجاز·
< كيف نقرأ الجينوم جيداً؟
ـ للوصول إلى قراءة الجينوم البشري جيداً تجرى قراءة عينات من عدد كبير من الناس، فالبشر يشتركون في الجينوم الإنساني، وجينات السمات المعينة كلون العين أو طول القامة أو غيرها تأخذ الموقع نفسه على <كروموزوم> وإن تباينت دلالتها، ورغم هذا التطابق الهائل بين جميع البشر فإن تفرد شخص بذاته بما يميزه عن سائر الخلق يكمن في نحو 2 الى 10 ملايين من بين ثلاثة البلايين من الوحدات القاعدية التي تكون <الجينوم>، والتي لو تسنى لنا ان نفردها لكانت خيطا طوله ستة أقدام محشواً داخل النواة على هيئة <الكروموزوم> الستة والأربعين·
أما اكتشاف <جين> مرض بعينه فيتم بالوصول الى معرفة <الجين> الذي ينفرد به المرضى بهذا المرض مختلفا في تهجيته عن الجين نفسه في الأسوياء·
ولابد من الإشارة هنا الى أن حمض <النوويك> الذي يشكل أجسامنا هو بذاته حمض <النوويك> الذي يشكل أجسام بقية الكائنات الحية، سواء كان مكروباً أو حشرة أو طيراً أو حيواناً، إذن فليست طينتنا هي التي تجعلنا بشراً·
< لماذا مشروع الجينوم؟
ـ العلم لا يقبل التوقف عند حد، وعلى هذا جبل الإنسان، وشهية الإنسان للمعرفة طاغية، فكلما قيل لها: هل امتلأت؟ قالت: هل من مزيد؟ واليوم يتصدى الإنسان لرد وظائفه الحيوية الى أصولها الكيماوية، ورد صفاته وسماته وصحته ومرضه الى جيناته وجزئياتها· وبغير ذلك لن نصل الى قرار الستة آلاف مرض من الأمراض الوراثية التي تصيب الإنسان أو تسبب قابليته لمرض من الأمراض يعتريه في الحال أو في الاستقبال حتى بعد عقود من حياته، فهي الخطوة الأولى ربما لدرء هذه الأمراض أو التوقي لها أو على الأقل توقعها والأهبة لها، وذلك على مدى واسع من أمراض القلب وأنواع السرطان وغيرها وغيرها، وخصوصاً تجاوز العلم عتبات العلاج الجيني، سواء بالجراحة الجينية التي تزيح جينا معطوبا وتضع مكانه مثيلا سويا، وكأنها تستبدل مسماراً بمسمار في ماكينة، أو باستخلاص جين سوي من إنسان سوي وزرعه والحصول على افرازاته وإعطائها كدواء لمريض جينه لا يفرز هذا الإفراز· وسيتسنى كذلك دراسة العوامل البيئية المختلفة كالإشعاعات
أو العقاقير والمواد الكيمياوية على الجينات لنرى ماذا تفعل وكيف تفعل· ومنذ السبعينيات اكتشفت<الهندسة الوراثية>·
ودخلت إلى حيز التنفيذ صناعة غرس جين ذي وظيفة معينة في كائن من جنس آخر ليؤدي الوظيفة نفسها، كما هو معلوم من زرع جين الإنسان الذي يسبب إفراز الأنسولين في نوع من البكتريا وتركه يتكاثر فينتج كميات كبيرة من الأنسولين البشري الذي يفوق كثيراً الأنسولين ذي الأصل الحيواني في علاج مرضى السكر، أو الحصول على هرمون النمو من الجين الذي يفرزه لعلاج الأطفال قصور النمو الذي يؤدي الى قصر القامة، أو تحضير المادة المفقودة في مرضى الهمفويليا والقاصر الذي يعوق تجلط الدم فيؤدي إلى النزيف، أو مادة الانترفيرون التي تستعمل في علاج بعض السرطانات، أما التطبيقات في عالم الزراعة أو تربية الحيوان فهي معنا كل يوم، والمستقبل أسخى من الحاضر·
< ماذا عن المخاوف والمحاذير؟
ـ الواقع أنا لديَّ تساؤلات كثيرة··· هل في صالح الإنسان أن يعلم عن نفسه أموراً نعتبرها الآن في حوزة المستقبل؟ وما شعوره إن علم أنه سيموت في سن الاربعين، أو أنه سيصاب بمرض شلل العضلات الذي يظهر في سن الخمسين؟ليس هذا رجما بالغيب بطبيعة الحال ولا ادعاء لمعرفة المستقبل، ولكنه كما ترى الهلال في أول الشهر فتقول إنه سيكون بدراً بعد أسبوعين· فقراءة الجين حاضر معلوم ينبئ بقادم محتوم· فما مذاق الحياة إن علم المرء ذلك وخاض حياته يترقب مصيره المعلوم، <ووقوع البلاء خير من انتظاره <كما تقول الحكمة العربية· ومن غير المتوقع في القريب أن يدبر لكل من هذه الأمراض علاج، ويظل الطب عالماً بالتشخيص ولكن عاجزاً عن العلاج· ويظل المريض حائراً، أيتزوج أم يحجم؟ وينجب أم يمتنع؟ ويهلع أم يطمئن؟
ـ وماذا لو شاءت الحكومة أو جهات العمل الأخرى أن يكون من بين إجراءات الكشف الطبي عند التعيين قراءة جينوم الشخص طالب الوظيفة، فوجدت عنده جينا ينبئ عن القابلية لمرض القلب أو السرطان أو غير ذلك؟ أترفض تعيينه فيكون هناك تعصب ضد هؤلاء الناس أشبه بالتمييز العنصري، وإن يكن على أساس الصحة لا على أساس الجنس أو اللون؟ وهل هذا عدل؟
ـ ومثل ذلك أن تشترط شركات التأمين الصحي أو التأمين على الحياة أن تطلع على الجينوم فترفض أو تقبل على أساس الاحتمالات الصحية في المستقبل، علماً بأنه ليس من اللازم أن يصاب كل ذي جين معيب بالمرض، ففي حالات كثيرة يحدث المرض بسبب تفاعل هذا الجين مع مؤثرات خارجية (بيئية) قد لا تصادف المريض فينجو بذلك من المرض·
ـ وما مدى إمكان صيانة المعلومات الجينية، وهي من خصوصيات الشخص الداخلة في نطاق حفظ سر المهنة، وهي مسجلة على قرص الكمبيوتر تتناولها أيادٍ غير طبية ويسطو عليها المتطفلون من الناس أو الهيئات أو الشركات أو الحكومات؟ فهو تجسس لا يجوز·
ـ فإذا تسربت المعلومات، فهل يفضي ذلك الى دمغ هؤلاء الناس بآفاتهم ووسمهم بعلاتهم حتى لو كانت مجرد احتمالات قد لا تجيء أبدا؟
ـ وإذا أظهر الفحص أن هناك آفة من الآفات التي تسري في العائلات وأريد التحقق من وجودها ـ أو عدم وجودها ـ في الأقارب، فهل يعد ذلك مسوغا لفض سر هذا الشخص إلى أقاربه لفحصهم؟ وهل تسمح الأخلاقيات الطبية بإبلاغهم بذلك؟ علما بأنهم قد يفضلون ألا تفتح عليهم هذه الجبهة ويختارون أن تسير حياتهم في مسارها العادي الذي قسمه الله دون أن يضيفوا إليها هماً جديداً!·
ـ وفي مجال التطبيق ستبدأ قراءة الجينوم في الحالات موضع الشبهة بحكم تاريخها الأسري الوراثي مثل السيدات اللاتي أصيبت أمهاتهن أو جداتهن أو أخواتهن بمرض سرطان الثدي على سبيل المثال، لمعرفة وجود هذا المرض في <جينومهن>، وهو <جين> تم العثور عليه حديثا· فإذا اكتشفت السيدات المرشحات لهذا المرض نصح الطب بأن يكن تحت المراقبة الطبية والفحص بالأشعة لاكتشاف المرض إن ظهر في أبكر أدواره وأرجاها للعلاج الناجح، إذا لا يوجد علاج جيني لهذا المرض بعد· فإن قلنا إن عشرة في المئة منهن سيصيبهن المرض في القابل من الحياة، فلا بأس أن تظل المئة تحت الملاحظة من أجل صالح العشرة· ولكن ماذا إذا انزعجت السيدات فطالبن جميعهن بعملية استئصال الثدي تحسبا وتوقيا، فمعنى ذلك أن تسعين من كل مئة عملية ستجري من غير حاجة إليها، فهل هذا الإسراف في جراحة كبيرة يكون مقبولا؟ وهل هو من الصالح العام والطبابة الحكيمة؟
ـ أما في مجال التكاثر البشري فستتيح قراءة <جينوم الجنين> معرفة عاهات الجنين الحالية ومعرفة آفاقه التي تنتظره في مستقبله القريب أو البعيد، ولو بعد عشرات السنين· وسيزيد بذلك زيادة كبيرة جداً إجراء الإجهاض في البلاد التي تسمح بالإجهاض·· حتى ولو كانت العلة هينة، وحتى لو كانت ستظهر في سن الاربعين أو ما فوق، مع أن حياة طولها أربعون أو خمسون سنة يمكن أن تكون حياة مفيدة وخصبة ومجدية·
ـ ومع استكمال قراءة الجينات وإمكانيات إبدالها فماذا لو رغب الوالدان في طفل يحمل سمة معينة مثل طول القامة، فهل هو مسوغ مقبول؟ وإذا انتشر ذلك، فهل يؤدي إلى تغيير المقاييس الحيوية السوية في المجتمع؟، حيث تصبح الأقلية غير طويلة القامة خارج النطاق السوي، وينظر إليهم على أنهم ذوو عاهة ويتعرضون للتمييز في العمل أو في الزواج أو في الاعتبار الاجتماعي؟
ـ وهل في صالح المجتمع أن ينجب أطفاله حسب المطلوب لا حسب المقسوم، وان تكون سماتهم صناعية لا طبيعية؟ أفلا يزري ذلك إذن بهذه المواليد فكأنها مصنوعات تصنع وحسب المواصفات، وربما يختارها من الكاتالوج، لا عطية من الله حسب حكمته ونواميسه ومشيئته للإنسان على المدى الطويل والبعيد الذي لا يمتد إليه بصر الإنسان ولا يدركه العلم بعد؟ حسب سنة الله في خلقه إذا اختلت فقد تؤدي إلى هلاك ودمار ما له من فوت·
ـ ولقد بدأ الحديث من الآن عن الجينات السلوكية· قال باحثون: إن هناك جيناً يدفع لإدمان الخمر وإن هناك جيناً يدفع للانحراف إلى الشذوذ الجنسي، وهي مزاعم لم تثبت للآن· ولكن إذا ثبت، فهل تصلح شافعاً لأصحابها يدفع عنهم اللوم أو التجريم؟ في منظورنا أن الأمر عكس ذلك، فمن كان لديه جين الخمر وجب أن يبتعد عنها، وألا يقع فيها، وأن يجتنب مجالسها بادئ ذي بدء، حتى لا يتكون الإدمان أصلاً· ومن كان لديه جين اللواطة وجب أن يعالج بوساطة العلاج النفسي المناسب، وهو ما كان عليها الحال حتى العام 1972م حين أعلنت الجمعية الأميركية لأطباء الأمراض النفسية أن الانحراف الجنسي اتجاه طبيعي عند أهله ولا يعد مرضاً يعالج أو عيباً يشين، فكان ذلك من المؤشرات المبكرة على تغلغل هذه الطائفة في دروب المجتمع وطوائفه، حتى أصبحت موجة سياسية يعمل لها ألف حساب، وهي عندنا مسألة محسومة، لأن الإسلام يقضي بكبح جماح النفس ونهيها عن الهوى، وليست المسألة ـ كما يتنادون ـ <كن ما أنت>، ولكن <كن ما يجب أن تكون>·
ـ ويمتد الحديث كذلك الى تحسين السلالة البشرية بزرع <جينات شيم> مرغوب فيها، فيزرع في الجبان جين الشجاعة، وفي العنيف جين الوداعة وهكذا، وحتى يومنا هذا يعد ذلك من قبيل الاستقراء العلمي لا الواقع العملي، ولو جاء فهو منزلق خطير إذ يكون العلم قد جاوز التحكم في الطبيعة إلى التحكم في الإنسان وأساس تفرد الإنسان هو أنه حر الاختيار وهو لهذا مسؤول عما يختار، وأي عبث بشخصية الإنسان يغير من أهليته للمسؤولية الفردية هو إهدار للإنسانية ذاتها لا يجيزه الإسلام بحال من الأحوال·
كل هذه الأسئلة تشغل بال العلماء والأطباء والمفكرين والأخلاقيين والمشرعين من الآن، ومهما اشتدت الحيرة واضطرم القلق فلن يحاول أحد أو يقدر على إيقاف التقدم العلمي· لكن المطلوب هو إيجاد الضوابط والتشريعات والأخلاقيات التي تنظم المنجزات المقبلة لا محالة، من قبل أن تحل بنا فإذا المحظور قد وقع وليس إلى دفعه من سبيل، وإذا المارد قد خرج من القمقم وهيهات هيهات أن يعود إليه·  منقول 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

هناك تعليق واحد:

faroukfahmy يقول...

وسام
معلومة اضافت الكثير الينا
والمطلوب هو ايجاد الضوابط والتشريعات التى تنظم المنجزات المقبله
شدتنى مدونتك وطلبت ان اكون من متابعينك حتى تظهر اعمالك الجلبلة فى قائمة تحكمى وارجو ان تفعلى المثل حتى تتواصل اعمالنا