الاثنين، 11 يونيو 2012

رسآئل مي زيادة و جبران خليل جبران ـ

بداية سأورد لكم نبذة عن نشأة كل منهما و كيف التقيا روحيا دون ان يتقابلا و لا مرة واحدة !!




ولدت مَيّ _ و اسمها الحقيقي ماري _ زيادة سنة 1886 م في الناصرة في فلسطين من أب لبناني ماروني و اأم فلسطينية أرثوذكسية

تعـلـّمت ميّ القراءة و الكتابة في دير الناصرة ثمّ انتقل أبوها ليعمل في التدريس في لبنان فدرست ميّ في مدرسة راهبات

و تعـلـّمت مي ّ زيادة عدّة لغات أجنبية و أتقنتها

و بعـد ذلك انتقل أبوها إلى القاهرة ليعمل في الصّحافة فانتقلت و أمّها معه

و في القاهرة أسس إلياس زخور زيادة_ أبو ميّ _ جريدة " المحروسة "،
فحررت ميّ فيها بابا ً اسمته " يوميات فتاة ".





أما جبران فقد ولد في جبل لبنان سنة 1883 م
و في الخامسة من عـمره بدأ يتعـلّم مبادئ العـربية و السّريانية و الفرنسية

ثمّ ذهب مع أمّه وأخوته إلى مدينة بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية و هناك تعـلـّم الإنجليزية

و في الخامسة عـشرة من عـمره عـاد إلى لبنان و بقي فيها ثلاث سنوات
حتى أتقن اللغـة العـربية 
و رجع بعـدها إلى بوسطن حيث بدأ يرسم و أقام معـارض للوحاته و بدأ يكتب مقالات بالعـربية في جرائد المهجر و أصدر مجموعـتين قصصيتين

ثمّ سافر إلى باريس ليدرس الرّسم و بقي فيها سنتين

وأخيرا ذهب إلى نيويورك التي لم يتركها بعـد ذلك





و كانت مي في السادسة و العشرين حين أرسلت لجبران مبدية إعجابها بكتاباته في عام1912

أجاب جبران عـلى رسالة ميّ وأرسل لها رواية " الأجنحة المتكسّرة " التي كان قد نشرها في نيويورك

و كتبت له ميّ أنـّها لا توافقه على آرائه و خاصة في الزواج 
و بدأت بينهما مراسلة استمرت تسع عـشرة سنة لم يلتقيا فيها أبدا ً


أرسلت ميّ صورتها لجبران في سنة 1921 ، فرسمها بالفحم و أرسلها لها

و تحولت عـلاقة ميّ بجبران _ قليلا ً فقليلا ً _ من الإعـجاب الأدبي إلى 
صداقة روحية ثمّ إلى حبّ


رسآئل مي زيادة و جبران خليل جبران ـ حبّ و أدب ـ


رسآئل زيادة جبران خليل جبران


هذه هي الرسالة الأولى الموجودة بالكتاب و لابد أنه سبقتها رسائل عدة ضاعت مع الأسف !







نيويورك 2 كانون الثاني 1919




حضرة الأديبة الفاضلة

قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! 
أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !



غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان 
أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .



والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين .
كيف أنت وكيف حالك ؟ 
هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ 
هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ 
أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .



وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي 
أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . 
أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .



بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها 
فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .



ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي .
واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ ")



وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة 
أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .



أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .



هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .



ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك .


المخلص 
جبران خليل جبران

...................

نيويورك 24 كانون الثاني 1919




حضرة الأديبة الفاضلة الآنسة ماري زيادة المحترمة .



سلام على روحك الطيبة الجميلة
وبعد فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التي تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقلاتك الواحدة أثر الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد
ولقد وجدت في مقالاتك سرباً من تلك الميول والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي ولكن هناك مبادئ ونظريات أخرى وددت لو كان بامكاننا البحث فيها شفاها
فلو كنت الساعة في القاهرة لاستعطفتك لتسمحي لي بزيارتك فنتحدث مليا في " أرواح الأمكنة " وفي " العقل والقلب " وفي بعض مظاهر " هنري برغسن" ( هنري برغسن فيلسوف فرنسي حاز على جائزة نوبل عام 1927 وهو صاحب نظرية الروحانية ضد هجمات المذاهب المادية من مؤلفاته " المادية والذاكرة" و " التطور والأخلاق" ) غير أن القاهرة في مشارق الأرض ونيويورك في مغاربها وليس من سبيل إلى الحديث الذي أوده وأتمناه



إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب وعلاوة على ذلك فهي تبين بصورة جلية اختباراتك النفسية الخاصة – وعندي أن الاختبار أو الاقتناع النفسي يفوق كل علم وكل عمل – وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية



ولكن لي سؤال استأذنك بطرحه لديك وهو هذا :
ألا يجيء يوم يا ترى تنصر فيه مواهبك السامية من البحث في مآتي الأيام إلى إظهار أسرار نفسك واختباراتها الخاصة ومخبآتها النبيلة ؟
أفليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين ؟
ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها أفضل من رسالة في الشعر و الشعراء ؟
إني كواحد من المعجبين بك أفضل أن اقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول مثلا من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون المصرية وكيفية تدرجها من عهد إلى عهد ومن دولة إلى دولة لأن بنظمك قصيدة في ابتسامة أبي الهول تهبيني شيئاً نفسياً ذاتياً أما بكتابتك رسالة في تاريخ الفنون المصرية فانك تدلينني على شيء عمومي عقلي
وكلامي هذا لا ينفي كونك تستطيعين اظهار اختباراتك النفسية الذاتية في كتابة تاريخ الفنون المصرية بيد أني أشعر بأن الفن – والفن اظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح- هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة من البحث – والبحث اظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في الاجتماع
ليس ما تقدم سوى شكل من الاستعطاف باسم الفن
فأنا استعطفك لأني أريد أن استميلك إلى تلك الحقول السحرية حيث سافو ( شاعرة اغريقية ولدت في مدينة ليزبوس في أوائل القرن السادس قبل الميلاد لها تسع دواوين من الشعر الغنائي والاناشيد لم يصلنا منها سوى بضع قصائد ) وايليزبيت براوننغ ( شاعرة بريطانية مبدعة تمتاز قصائدها بالعمق والرقة والنزعة الصوفية وهي زوج الشاعر الانكليزي روبيرت براوننغ الذي أحبها من خلال قصائدها قبل أن يتعرف إليها ثم زارها في بيتها فأحبته حباً عارماً جعلها تتغلب على مرض عضال كان قد أقعدها ) وأليس شراينر ( كاتبة انكليزية دعت في مؤلفاتها إلى تحرير النساء ) وغيرهن من أخواتك اللواتي بنين سلّما من الذهب والعاج بين الأرض والسماء

أرجوك أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك




المخلص

جبران خليل جبران

ليست هناك تعليقات: